نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
النار الهدوئيَّة المشتعلة, اليوم السبت 7 يونيو 2025 03:18 صباحاً
تأتي العنصرة وتكتمل مسيرة الخمسين يومًا لتنطلق الكنيسة بالروح القدس. الروح القدس هو المحرِّك والمنير والمرشد والمعزِّي، مَن امتلأ منه استنار وأنار الآخرين، ومَن امتلأ من نفسه أُظلم وأَظلم آخرين. لقد قصد الربُّ أن تنطلق الكنيسة بالروح القدس ليكون المسار مستقيمًا مستندًا على كلام الربِّ: «وأمَّا المعزِّي، الروح القدس، الَّذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلِّمكم كلَّ شيء، ويذكِّركم بكلِّ ما قلتُه لكم» (يوحنَّا 14: 26). هذا كي لا نقع في الهرطقات وفخاخها المضلَّة.
مَن يراقب حركة الرسل بعد العنصرة يعي بشارة الإنجيل. ففور حلول الروح عليهم خرجوا من العلِّيَّة حيث كانوا ووقفوا بكلِّ شجاعة وخطبوا في الناس بخلاص المسيح، فدخل إلى الكنيسة ثلاثة آلاف شخص تقريبًا. وقد اندهش الفرِّيسيُّون والكتبة والمجمع اليهوديُّ كلُّه من فصاحتهم، فيذكر: «فلمَّا رأوا مجاهرة بطرس ويوحنَّا، ووجدوا أنَّهما إنسانان عديما العلم وعامِّيَّان، تعجَّبوا. فعرفوهما أنَّهما كانا مع يسوع» (يوحنَّا 4: 13).
تُبرز الآية عظمة عمل الربِّ، فالفرِّيسيُّون يؤكِّدون أنَّ التلاميذ بسطاء من عامَّة الشعب، وهم، بحسب اعتقادهم، أدنى مستوى منهم اجتماعيًّا وعلميًّا وفي كلِّ شيء، فمن أين لهم أن يأتوا بهذه الفصاحة والبلاغة وهم صيَّادو سمك! ولكنَّهم في المقابل نطقوا بإعلان سماويٍّ، لم يدركوا، للأسف، عمق معناه، فقالوا: «إنَّهما كانا مع يسوع».
هنا لبُّ الموضوع وهنا كلُّ شيء. فالفرق كبير بين أن نعرف عن يسوع وأن نعرفه ونكون معه. الربُّ يريدنا أن نتعلَّم ولكن بالروح القدس، كي لا ننتفخ من أنفسنا. العلم في اللاهوت ضروريٌّ ولكن من أجل مجد الربِّ وليس من أجل مجدنا الشخصيِّ. هذا تحديدًا ما جعل الرسل الأطهار يتابعون رسالتهم إلى أقصاها وهم علماء كبار وفي الوقت نفسه متواضعون وودعاء، حازمون ومحبُّون. وأجمل شيء عندهم وعيُهم أنَّهم لا شيء من دون الربِّ. لم يكونوا يملكون شيئًا، وفي الوقت نفسه كان عندهم كلُّ شيء: يسوع. هذا ما قاله بطرس للأعرج عندما شفاه: «ليس لي فضَّة ولا ذهب، ولكن الَّذي لي فإيَّاه أعطيك: باسم يسوع المسيح الناصريِّ قُم وامشِ!» (أعمال 3: 6).
هم طلبوا المجد السماويَّ فكان نصيب أغلبهم الاستشهاد من أجل المسيح. أعطاهم الربُّ مجدًا كبيرًا، فكان الناس يرجون أن يخيِّم ظلُّ بطرس على مرضاهم ليشفوا (أعمال 5: 15). شفوا مرضى وأقاموا موتى باسم يسوع.
لم يعودوا يأبهون للفرِّيسيِّين، لا بل كانوا يأتون إلى الهيكل يبشِّرون جهارًا بالإنجيل. تعرَّضوا للاضطهاد فلم يتراجعوا، نُكِّل بهم فلم يستسلموا، ساروا في المدن والساحات يحملون اسم المسيح للعالم. لم يكن الروح القدس يفارقهم، كان يشدِّد عزيمتهم في كلِّ تفاصيل حياتهم، وهم تركوه يقودهم. وفي المقابل كان الربُّ يعمل معهم ومع أشخاص كثيرين.
حلول الروح القدس على التلاميذ لم ينحصر في يوم العنصرة فحسب، بل هو عمل الربِّ المستمرُّ، فنرى الربَّ لاحقًا يصطاد بولس الرسول على طريق دمشق ويجعله يسير في الطريق المستقيم للإيمان، وأصبح بولس رسولًا في المسكونة جمعاء. كان ينتقل في البرِّ والبحر وسط الشدائد والعواصف. سُجِنَ وجُلِدَ وضُرِبَ وتعرَّض للموت مرارًا، وفي النهاية استشهد من أجل الإنجيل.
ماثل الرسل في بشارته واجتراحه الآيات والعجائب، واستشهد من أجل المسيح والإنجيل. يذكر سفر أعمال الرسل الَّذي تشدِّد الكنيسة على أن نقرأه في الزمن الخمسينيِّ لكي نعي عمل الروح القدس في انطلاقة الكنيسة، يذكر أنَّه «كان يؤتى عن جسد بولس بمناديل أو مآزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشرِّيرة منهم» (أعمال 19: 12).
دخل بولس المسيحيَّة بعد الرسل وأصبح مِن أوَّلهم. هذا هو معيار الربِّ، الإنسان يتقدَّم في التضحية والمحبَّة والخدمة والإيمان. والقلب المتقدِّم في الربِّ يكون مشتعلًا بالروح القدس، ويصبح بالتالي منارة ترشد النفوس التائهة في بحر الخطيئة إلى شطِّ يسوع الآمن والدافئ. وأكثر من ذلك، وضعت الكنيسة بولس الرسول في أيقونتَي الصعود الإلهيِّ والعنصرة، مع أنَّه في هذين الحدثَين كان مضطهدًا للمسيحيِّين ويُدعى شاول.
الربُّ يسوع المسيح واضح، لا يمكن للإنسان أن يصبح صيَّادًا للنفوس ما لم يصطده الربُّ أوَّلًا. فنحن نأخذ من لدنه ونعطي.
العلاقة بين المؤمن والربِّ أولى ثمارها الهدوء. هدوء النفس، وهدوء القلب، وهدوء العقل، وهدوء المشاعر، وهدوء التفكير، وهدوء الصلاة، ومجموعها هدوء «النوس Nous» أي الذهن. ذلك كلُّه يعطي الإنسان هدوء الحضور، ويجعله يشعُّ هدوءًا وسلامًا وراحة.
فإذا تأمَّلنا بأيقونة حدث العنصرة وغصنا فيها لاحظنا الهدوء الإلهيَّ، مع أنَّ النصَّ الإنجيليَّ يتكلَّم عن هبوب رياح شديدة وعاصفة أثناء حلول الروح القدس على التلاميذ: «وصار بغتةً من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كلَّ البيت حيث كانوا جالسين» (أعمال 2: 2).
نشاهدهم في الأيقونة جالسين من دون أيِّ اضطراب. كيف ذلك؟ لأنَّ النصَّ الإنجيليَّ يستعمل «كما» أي تشبيهًا، بمعنى أنَّها ليست عاصفة أرضيَّة تسبِّب الأضرار بل هي عاصفة المحبَّة الإلهيَّة الَّتي تغمر الإنسان سلامًا وهدوءًا ليسا من هذا الأرض، كما قال يسوع لنا. إنَّها عاصفة إلهيَّة تسكت كلَّ الرياح المضادَّة.
يبقى في الختام أنَّ المكان الأوسط الأساسيَّ في أيقونة العنصرة يكون فارغًا لأنَّه مكان الربِّ يسوع المسيح الَّذي هو رئيس الكنيسة وصخرتها، وهو معنا دائمًا. هناك استثناءات ولكنَّها نادرة، مثل لوحة عاجيَّة من القرن الخامس الميلاديِّ تقريبًا، نشاهد فيها الربَّ يسوع في الوسط جالسًا مع التلاميذ، وهناك تصوير من إنجيل رابولا (586م) نشاهد فيه والدة الإله واقفة في وسط التلاميذ، وعلى رؤوس الجميع شعلة نار، وفي الأعلى حمامة منحدرة نحوهم تمثِّل الروح القدس.
أعطنا يا ربُّ أن يكون قلبنا مشتعلًا بروحك القدُّوس. آمين.
إلى الربِّ نطلب.
0 تعليق