نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الملك يعيد ضبط "المسطرة الأخلاقية" لعالم تتهاوى فيه القيم, اليوم الأربعاء 18 يونيو 2025 03:53 صباحاً
سرايا - في خطابه أمام البرلمان الأوروبي، أعاد جلالة الملك عبدالله الثاني التذكير بما يبدو أن العالم قد أضاعه وسط الركام السياسي والحسابات الباردة من على منبر برلمان يمثل ذاكرة أوروبا الأخلاقية، إذ جاء الخطاب الأردني ليكون أكثر من مجرد موقف، بل صدمة أخلاقية مدروسة في وجه عالم يفقد توازنه، ويكاد يفقد بوصلته الأخلاقية، مستخدماً لغة غير مسبوقة في المباشرة والوضوح وتعرية «السائد المخزي».
جاء الخطاب، بتوقيته ومضامينه، ليكون نداءً استثنائياً في لحظة تاريخية يعصف بها الانقسام والتخاذل، حيث لا تكاد تمر أزمة حتى تلحقها أخرى، بينما «الكراهية والانقسام يزدهران، والاعتدال والقيم العالمية تتراجع أمام التطرف الأيديولوجي»، بحسب تعبير الملك. ومن هنا، بدا حديثه كأنه محاولة لإعادة ضبط المسطرة الأخلاقية، لا للأوروبيين وحدهم، بل للأسرة الدولية برمتها.
الملك لم يتحدث عن غزة بوصفها فقط جرحاً نازفاً، بل بوصفها مقياساً حاسماً لانهيار النظام القيمي العالمي. قالها بوضوح: «ما لا يمكن تصوره أصبح اعتيادياً»، وتحوّلت المجازر إلى روتين دموي عابر، حتى «أن الهجمات على مرافق الرعاية الصحية في غزة، التي بلغت قرابة 700 هجوم، بالكاد تُذكر».
جلالة الملك، وهو يذكر أوروبا بماضيها القريب، ذكّرها أيضًا بخياراتها بعد الحرب العالمية الثانية، حين اختارت القيم لا الانتقام، واحترام الكرامة الإنسانية لا الهيمنة. «لقد استنتجت أوروبا في أعقاب الحرب أن الأمن الحقيقي لا يكمن في قوة الجيوش، بل في قوة القيم المشتركة»، قال الملك، موجهًا حديثه مباشرة إلى وجدان القارة لا إلى مؤسساتها فقط.
هذا ليس خطابًا عاطفيًا ولا نداءً معزولاً. إنه بناء محكم لقضية القيم باعتبارها الضمانة الحقيقية للسلم العالمي، ومفتاح بقاء العالم ككيان أخلاقي جامع. الملك وضع المجتمع الدولي أمام خياراته الجوهرية: «بين السلطة والمبدأ، بين حكم القانون أو حكم القوة، بين التراجع أو التجديد»، وهي ثلاثية تعكس بعمق اللحظة الحرجة التي يعيشها النظام العالمي.
لم يكن الخطاب دفاعاً عن غزة فقط، بل صرخة تحذير من أن ما يحدث هناك هو اختبار لهوية العالم ذاته. قال الملك: «هذه ليست مجرد لحظة سياسية أخرى لتسجيل المواقف؛ بل إنه صراع حول هويتنا كمجتمع عالمي في الحاضر والمستقبل».
والقضية، كما صاغها، ليست فقط في أن أطفال غزة يُذبحون، أو أن المجاعة تُستخدم كسلاح، بل في أن العالم لم يعد يشعر بالخجل، وكأن تلك الانتهاكات باتت «أمراً شائعاً بالكاد يُذكر». هذا الانحدار الأخلاقي، كما وصفه جلالته، «يهدد الشعوب في كل مكان»، لأن غياب الردع القيمي في غزة سيتكرر في أماكن أخرى، وبذرائع مختلفة.
أكد جلالة الملك أن الدفاع عن القدس ومقدساتها ليس مسألة سياسية فحسب، بل التزام أخلاقي وتاريخي موغل في الجذور. استدعى من التاريخ العهدة العمرية، ومن القانون الدولي اتفاقيات جنيف، ليقول إن حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية واجب لا يُساوَم عليه، وهو «وعد لأهل القدس منذ قرون»، وأمانة حملها الهاشميون عن وعي ومسؤولية.
ربما يمكن تلخيص خطاب الملك بأنه إعلان أخلاقي عالمي جديد، يستنهض ما تبقى من ضمير العالم، ويعلن أن الصمت لم يعد خياراً، وأن الحياد في وجه الظلم ليس سوى شراكة غير معلنة في الجريمة. قالها صراحة: «إذا فشل مجتمعنا العالمي في التصرف بشكل حاسم، فإننا نصبح متواطئين في إعادة تعريف معنى أن تكون إنساناً».
الملك دعا إلى صياغة رؤية عالمية جديدة تقوم على ركنين أساسيين: التنمية كأداة استقرار، والأمن المشترك القائم على القانون والعدالة. وحين شدد على أن «الفلسطينيين، مثلهم كمثل جميع الشعوب، يستحقون الحق في الحرية والسيادة، ونعم.. إقامة دولتهم المستقلة»، فإنه لم يكن يسجل موقفاً، بل كان يؤسس لمعادلة أمنية وسياسية شاملة ترى أن إنهاء الاحتلال هو شرط للاستقرار، لا مطلب تفاوضي مؤجل.
قال الملك في ختام خطابه: «إن الطريق الذي نسلكه للارتقاء بأنفسنا لا يمكن أن يكون ممهداً بالتقدم التكنولوجي أو الإنجازات العلمية أو الانتصارات السياسية وحدها، بل إنه يصنع بالخيارات التي نتخذها كل يوم كأفراد وقادة».
هذه الخلاصة ليست دعوة أخلاقية فقط، بل تحذير سياسي أيضاً. العالم أمام مفترق حقيقي، وإذا ما اختار أن يواصل مساره الحالي، فستنهار القيم تباعاً، وتنهار معها البنية الأخلاقية التي قامت عليها الأمم المتحدة والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان.
بكلمات أخرى، كان خطاب الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي صرخة أخيرة للعالم كي يتذكر إنسانيته، ويفهم أن الغد الأخلاقي يبدأ من اليوم، أو لا يكون.
0 تعليق