في ظل الظروف الاقتصادية المتقلبة وارتفاع أسعار السيارات الجديدة بشكل لافت، يبرز شراء السيارات المستعملة كخيار استراتيجي للكثيرين، يوفر ما قد يصل إلى ٣٠٪-٥٠٪ من القيمة الأولية، لكن هذا الطريق، رغم وعوده الاقتصادية الجذابة، محفوف بمخاطر قد تحول الصفقة الموفرة إلى كابوس مالي وميكانيكي دائم.

 وفقًا لتقارير جمعيات حماية المستهلك، فإن ما يقارب ٤٠٪ من مشتري السيارات المستعملة يواجهون أعطالاً كبرى غير متوقعة خلال السنة الأولى من الشراء، مما يسلط الضوء على أهمية التحول من شراء اندفاعي إلى عملية استقصائية مدروسة.

السجل التاريخي.. شهادة ميلاد وهوية طبية للسيارة

لا يمكن المبالغة في أهمية السجل التاريخي للسيارة، فهو بمثابة شهادة الميلاد والهوية الطبية لها. يقول خالد المرزوقي، خبير فحص السيارات في مركز "أوتو تريست": "رقم الهيكل (VIN) هو مفتاح الكنز أو اللغم، وتجاهله يشبه التوقيع على عقد بيع دون قراءة بنوده الصغيرة".

فك شفرة الـ VIN: هذا الرقم الفريد المكون من ١٧ حرفًا ورقمًا (غالبًا ما يوجد على لوحة بالقرب من زجاج السيارة الأمامي من جهة السائق أو على باب السائق) هو جواز سفر السيارة،

ليس كل حادث كارثة فهناك (حادث بسيط، متوسط، إجمالي)، حوادث الإجمالي  يجب التعامل معها بحذر شديد حتى لو أُصلحت، فقد تعاني من مشاكل هيكلية دائمة تؤثر على السلامة.

أما سجلات الصيانة فهي توضح  هل التزم المالك السابق بمواعيد تغيير الزيوت والفلتر والكوابح والسوائل الحيوية؟ فترات الصيانة الطويلة أو المتقطعة إنذار خطر.

ويجب الانتباه إلى كثرة تغيير الملاك (٣ ملاك أو أكثر لسيارة عمرها ٥ سنوات مثلاً) قد تشير إلى مشاكل مزمنة أو تعامل قاسٍ مع السيارة.

الفحص الفني الشامل: ما وراء الوهج اللامع

المظهر الخارجي اللامع والشاسيه النظيف قد يكونان خدعة بارعة. "لا تثق بعينيك وحدها"، حيث يحذر الخبراء من أن "الكثير من البائعين غير النزهاء يلجأون إلى 'التلميع' السريع لإخفاء عيوب ميكانيكية أو هيكلية خطيرة"، ومن ثم يجب أن يتم الفحص لدى مختص وهي ضرورة لا رفاهية، لأن  فحص الميكانيكي المحايد والمؤهل يذهب إلى ما لا تستطيع العين المجردة أو قيادة سريعة كشفه.

محاور الفحص الشامل للسيارة

الهيكل والأرضية: البحث عن علامات الصدأ العميق، اللحامات الرديئة (نتيجة إصلاح حادث)، أو أي تشوهات في الهيكل الأساسي (الشاسيه). استخدام مقياس سمك الطلاء يمكن أن يكشف عن إعادة دهان أجزاء كاملة (مؤشر حادث). المحرك: ليس فقط التشغيل السلس، بل فحص التسريبات (زيت، ماء، وقود)، صوت الصمامات، ضغط الاسطوانات، حالة الأحزمة والخراطيم، وعادم العادم (لون الدخان). فحص كود الأعطال (OBD-II) باستخدام القارئ الإلكتروني لاكتشاف أية أعطال مخزنة أو حالية. ناقل الحركة (جيربوكس): سواء كان يدويًا أو أوتوماتيكيًا، والفحص يبحث عن نعومة النقل بين السرعات، تأخير في التعشيق (خاصة في الأوتوماتيك)، أصوات طقطقة أو صرير، وتسريبات زيت الجير. نظام التعليق والتوجيه: اختبار القيادة على طرق غير مستوية للكشف عن أصوات طرق أو هزات غير طبيعية، فحص البواليع (شوكات التعليق)، طقم التوجيه (Tie Rods, Ball Joints)، ومستوى زيت الباور. نظام الفرامل: فحص سمك تيل الفرامل والأقراص/الطبليات، مستوى سائل الفرامل، وفاعلية الفرامل اليدوية. اختبار الفرامل عند سرعات مختلفة. الإطارات: تواريخ الصنع (عمر الإطارات لا يتجاوز ٦ سنوات عادة)، عمق المداس المتساوي، وعلامات التآكل غير الطبيعي (قد تشير لمشاكل في المحاذاة أو التعليق). الكهرباء والإلكترونيات: فحص كفاءة البطارية، عمل جميع الإضاءات (الخارجية والداخلية)، المكيف، المساحات، النوافذ الكهربائية، نظام الصوت، وأي شاشات أو أنظمة مساعدة. الزجاج: التأكد من خلوه من الشروخ أو الرقاقات الكبيرة، خاصة في الزجاج الأمامي.

مراقبة السوق ومقارنة الأسعار 

السعر ليس مجرد رقم، بل هو مؤشر قوي على القصة الخفية للسيارة، "إذا بدا السعر جيدًا لدرجة يصعب تصديقها، فغالبًا هو كذلك" لأن "الانحراف الكبير عن متوسط سعر السوق لطراز وعمر وميلاج معين هو جرس إنذار أحمر"، وفق تجار السيارات. 

وينصح بتصفح مواقع السيارات الرائدة (مثل كارس دوت كوم، يلا موتور، سوق دوت كوم، بالإضافة إلى موقع "سيارتك" المذكور)، ومعارض السيارات الإلكترونية المعروفة، ومقارنة سيارات نفس الطراز، نفس الموديل (سنة الصنع)، نفس مستوى القطع (فئة الفئة)، وميلاج متقارب (اختلاف ١٠-٢٠ ألف كم قد يكون مقبولاً).

تجنب السيارات "المشبوهة" بسعر منخفض جدًا: تجنبها إلا إذا كنت مستعدًا لتحمل مخاطر كبيرة، فقد تكون نتيجة إصلاح حادث رئيسي، أو تعاني من عطل مكلف قادم (ناقل حركة أو محرك)، أو مسروقة، أو بها مشاكل قانونية (قروض غير مسددة مثلاً)، فيما قد يبرر سعر أعلى قليلاً وجود ملحقات قيمة كاميرا خلفية، شاشة ملاحة، جنوط أصلية فاخرة، أو صيانة حديثة شاملة بفواتير موثقة.

تجربة القيادة.. الاستماع إلى لغة السيارة

لا تغادر مكان البيع دون أن تقود السيارة بنفسك، وليس لمجرد دورة حول المبنى. "اختبار القيادة هو حاسة اللمس والسمع للمشتري" و"هو لحظة الحقيقة حيث تتحدث السيارة بصراحة".

اختر طريقًا يسمح لك بالسير بسرعات مختلفة، ويتضمن إذا أمكن منحدرًا (لاختبار قوة المحرك والفرامل)، وطريقًا غير مستوٍ (لاختبار التعليق والصوتيات الداخلية).

لاحظ أي تأخير أو ارتجاج عند تحرير الدبرياج (اليدوي) أو تحريك ذراع الجير من P أو N إلى D أو R (أوتوماتيك)، واستمع لأصوات المحرك – هل هناك طقطقة، صفير، أو دقات معدنية غريبة؟ هل هناك دخان غير طبيعي من العادم؟ هل التسارع سلس ومتناغم مع ضغط البنزين؟

في السيارات اليدوية، تحقق من نعومة تغيير النقل وغياب صوت الصرير. في الأوتوماتيك، تحقق من تغيير النقل في الوقت المناسب وبدون "نطحات" قوية، خاصة عند التغيير بين R و D، وفرملة بسلاسة أولاً ثم فرملة طارئة (بأمان) عند سرعة معقولة. هل السيارة تسير في خط مستقيم عند الفرملة؟ هل هناك اهتزاز في عجلة القيادة أو صوت صرير؟

هل العجلة تعود بسلاسة إلى المنتصف بعد المنعطف؟ هل هناك لعب (فراغ) زائد في العجلة؟ هل تسير السيارة في خط مستقيم دون الحاجة لتعديل العجلة باستمرار؟

عند المرور على مطب أو طريق غير مستوٍ، استمع لأصوات طرق أو خشخشة من منطقة العجلات أو التعليق، هل تمتص الصدمات بشكل جيد أم أن الاهتزاز يصل لمقصورة الركاب بقوة؟

راقب عجلة القيادة، التابلوه، أو جسم السيارة عند سرعات مختلفة (خاصة السرعات العالية). الاهتزاز المستمر قد يشير لعدم توازن الإطارات أو مشاكل في التعليق أو الإطارات نفسها.

أي روائح غريبة مثل احتراق زيت، وقود، أو سائل التبريد داخل المقصورة أو من المحرك بعد القيادة يجب التحقق منها فورًا.

شراء سيارة مستعملة هو ليس مجرد معاملة مالية؛ هو استثمار في السلامة والموثوقية وراحة البال لسنوات قادمة، بينما  الإغراء باقتناص "صفقة" سريعة قد يكون قويًا، لكن تكلفة التسرع غالبًا ما تكون باهظة على شكل أيام ضائعة في الورش، فواتير إصلاح فلكية، وخسارة القيمة عند إعادة البيع. النصائح الأربع المذكورة – التحقق من السجل التاريخي، الفحص الفني المتعمق، مقارنة الأسعار بمنهجية، واختبار القيادة الواعي – ليست خطوات اختيارية، بل هي درع واق ضد المخاطر.

تذكر أن البائع ليس مستشارك، مهمتك هي أن تكون المحقق الذي لا يترك تفصيلة صغيرة تمر دون تدقيق، والوقت والمال القليل الذي تستثمره اليوم في هذه الخطوات الوقائية ليس ثمينًا فحسب؛ بل هو الضامن الوحيد لتحويل فرصة شراء سيارة مستعملة من مغامرة محفوفة بالمخاطر إلى قرار اقتصادي حكيم وذكي، يوفر آلاف الدراهم أو الريالات ويجنبك المتاعب التي قد تستنزف طاقتك ومدخراتك غدًا.