نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ترامب بين منهجيات تفكيك الدول والتوسع الامبريالي, اليوم الأربعاء 28 مايو 2025 08:52 صباحاً
إن المقالات المنشورة في خانة "مقالات وآراء" في "النشرة" تعبّر عن رأي كاتبها، وقد نشرت بناء على طلبه.
انه لمن النوادر ان نجد دولة ما في هذا العالم والتاريخ تتنازل عن جزء من أراضيها او مواردها الطبيعية، فالدول بطبيعة الحال تسعى بالحد الأدنى لتطوير ذاتها ومن ثم تجري محاولات للتوسع بغية تحصيل مكانة اعظم في عالم القوة التي تفرضها الواقعية كما عبر هانتس مورغانتو في كتابه السياسة بين الأمم الصراع من اجل السلطان و السلام .
لذلك نجد صراعاً دائماً بين الدول الكبرى على تحصيل ارض وربما دولة بكاملها اما عبر الاستعمار بعناوين مختلفة مثل التدخل الإنساني او التدخل من اجل الديمقراطية، وربما عبر الضم الفعلي لتصبح ولاية او مقاطعة جديدة من مقاطعات الدولة الكبرى، وهذا المنهج الذي اعتبره علماء السياسة قد ولى منذ وفناء الإمبراطوريات وولادة دول قومية بعد مؤتمر ويست فاليا عام ١٦٤٨ حيث انتقلت عملية الضم والاستعمار من الإمبراطورية الى الدول القومية المجاورة كالمانيا و فرنسا وبريطانيا والسلطنة العثمانية، وعلى اثر هذه المنهجية اندلعت الحربين العالميتين حتى تولدت منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ووضعت نظاماً سياسياً لهذا العالم عبر الدول لحفظ الأمن والسلم الدوليين، ثم ورثت الدول المنتصرة بعد الحرب ذات المنهجية التوسعية اما الضم واما الاستعمار وصار عنوان هزيمة أي دولة هو يوم تتخلي عن احدى مستعمراتها او تفكك اتحادها الفدرالي او المونفدرالي حتى نهاية الحرب الباردة التي سهدت تفكك الاتحاد السوفياتي وبالتالي انتقال العالم من الثنائية القطبية الى الأحادية الأميركية التي بدورها انفردت في ممارسة منهجية الضم و الاستعمار تحت عناوين مختلفة.
لكن في المقلب الاخر لهذا المشهد هناك مشهداً معاكساً يحاكي عملية الضم والاستعمار ولكن بشكل سلبي وهو منهجية التفكك والتنازل عن الاستقلال، فلو لم يكن هناك دولاً تتلقى الاستعمار لما كان هناك دولة تستطيع ان تستعمرها، هذا مفاده انه طالما هناك دولاً قابلة للتفكك فانها بشكل غير مباشر تقدم نفسها اما للضم واما للاستعمار لدولة كبرى لانه وبحسب هذه النظرية فان مصير التفكك الضعف وهدف الضم القوة، ولكن ما هي الأسباب التي تدعو الدول الصغيرة او الكبيرة للتفكك؟ وكذلك ما الذي يدعو الدول القوية للضم؟.
اليوم يتوعد رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب بضم كندا لتصبح الجزء الواحد والخمسين من الولايات الأميركية، وكذلك يطالب بضم غرين لاند من الدنمارك،وهو موجود بقواعد عسكرية في الشرق الأوسط ومنتشراً في أجزاء من سوريا والعراق، وتركيا تتوغل في الشمال السوري، وروسيا التي ضمت دونتسيك ولوهانسك في مطلع الحرب مع أوكرانيا عام ٢٠٢٣ تسعى للسيطرة على القرار السياسي في كييف، وكذلك عاد الصراع للواجهة بين الهند وباكستان على إقليم كاشمير، والصين تطالب بضم تايوان، و إسرائيل لا زالت تنوي احتلال غزة والسيطرة على الضفة وجنوب لبنان ودخلت عملياً الى عمق الحنوب السوري وهي ترفع شعار إسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات.
فماذا يحصل في هذا العالم؟ هناك عالماً فرنسياً يتحدث عن انفجار الدول وهذا اخطر من تفكك، وكان هنري كيسنجر تنبأ قبل وفاته ببضعة شهور بزوال معظم الدول العربية، نعم هناك عوامل لهذه الظاهرة اهمها وجود تعدد في القوميات والإثنيات في الدولة الواحدة مثل العراق بين اكراد وعرب وبين شيعة وسنة ولبنان بين مسيحيين ومسلمين فهناك من بدأ بالمطالبة بالفيدرالية اللبنانية، وسوريا التي باتت على وشك الانقسام بين الشمال والجنوب والوسط، وهناك كلام كبير حول تفكك المملكة العربية السعودية وجعل مكة دولة دينية مستقلة وتقسيم أطرافها بين بدو حضر ودولة حضارية نتيجة سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الانفتاحية المفاجئة، اذاً هناك عوامل قد تكون طبيعية للتفكك ولكن الخطورة في الامر ان هناك من يلعب على تأجيج هذه العوامل ورفض الشراكة والتعايش وكأن الشعوب لا تستطيع ان تتعايش بمجتمعات متعددة، الا ان المد الأميركي يسعى ثقافياً و اعلامياً ومالياً على تاجيج الصراعات المذهبية والقومية والثقافية وفتح ثقافة حق الانفصال لكل مكون عن دولته المركزية ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمد أميركا على اضعاف الدولة المركزية من ناحية الخدمات والعدالة الاجتماعية وانفاص حقوق بعض الشرائح على حساب شرائح أخرى فتغيب دولة الدستور والقانون والمؤسسات حتى تتضرر الفئات الاجتماعية المكونة للدولة فتشعر بالحاجة للانفصال وتبدأ المطالبة بدولة خاصة ترعى لهم حقوقهم، فمهما كانت الطموحات مقبولة ومحقة الا ان الأهداف في مكان اخر وهي سيطرة أميركا على موارد دولنا بعد تجزئتها وانفراط عقد القوة لدى كل دولة، فاذا ارادت اميركا ان تثقف شعوبنا بفكرةً حق الانفصال فليتوقف ترامب عن المطالبة بكندا وغرين لاند وليبدأ بنفسه بتفكيك ٥٠ ولاية و ليعطي ذوي البشرة السوداء حقهم بالانفصال وليعيد الولايات المكسيكية للمكسيك مثل كاليفورنيا ونيوماكسيكو واريزونا وتكساس.
في الحقيقة ان الامر ليس كذلك، فان الاتحادات تتطلب تجانس في الأنظمة و الثقافة و المواقف ، فالعرب توحدوا في جامعة الدول العربية كمحاولة لتحقيق تكامل اقتصادي و دفاعي، لكنهم فشلو بذلك حين انفصلوا في الموقف تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، والجمهورية الاتحادية العربية بين مصر وسوريا لم تدم بسبب الرؤى المتعاكسة بين الدولتين، واليوم التطرف السني في أوجه في سوريا والمنطقة، و المحمية المسيحية ترفع الصوت عالياً وتناشد الدول الغربية بمنحها الفدرالية في لبنان، والاكراد منذ زمن يطالبون بدولة كردية بديلاً عن العراق وسوريا، واليوم الذي يراه ترامب مصدر قوة سياسية و اقتصادية لاميركا للأسف لا نراه في بلادنا كذلك لأننا نتغذى يومياً بالافكار التقليدية و الموروثات الهدامة، بينما ترامب يحتكر الثقافة الاقتصادية التكاملية و هو ذاته المستفيد من تفكك الدول العربية والإسلامية والأفريقية ليحقق الهدف الإمبراطوري للولايات المتحدة الأميركية.
0 تعليق