نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الوصم بين مطرقة العلم وسندان العرف, اليوم الاثنين 26 مايو 2025 04:04 صباحاً
تواجهنا أحيانا مواقف يومية تدفعنا للتأمل والتفكير بين منظورين متناقضين: العلمي الأكاديمي والاجتماعي التقليدي، وبين ما اكتسبناه أكاديمييا من قواعد نظرية وما نشأنا عليه اجتماعيا من عادات وأعراف، نجد أنفسنا أمام تداخل عميق بين المقدس علميا والمدنس اجتماعيا. في هذا السياق، غالبا ما نتردد في ممارسة النقد الحر، حيث نقع تحت تأثير قيود النظريات الأكاديمية الجامدة من جهة، ورقابة الأعراف الاجتماعية غير الموضوعية من جهة أخرى.
هذا التردد يشكل انعكاسا لصراع يومي يضعنا في موقف الحيرة، متنقلين بين دور الباحث الذي يتبنى المنهجية العلمية ودور الفرد الذي يخضع لحكم المجتمع. وبين هذين الدورين، تسعى الذات الباحثة عن الحرية الفكرية والاستقلالية عن كلتا المحكمتين – العلمية والاجتماعية – في محاولة لفهم أعمق لتلك العلاقة الجدلية. في هذا السياق، اخترنا اليوم أن نناقش مفهوم الوصم، متسائلين: من أين يبدأ الوصم؟ وأين ينتهي؟
إن طرح هذا السؤال يدفعنا لاستكشاف جذور المفهوم عبر النظريات الاجتماعية الكلاسيكية. فمن منظور النظرية التفاعلية الرمزية التي قدمها رواد مثل جورج هيربرت ميد، تُبنى الذات اجتماعيًا من خلال التفاعل بين الفرد والمجتمع، وتُعاد صياغتها باستمرار وفقًا لذلك. ومن خلال قراءة ألفريد كينزي وزملائه، نجد تركيزًا على البعد الاجتماعي للأفعال التي تُصنف كوصمات. أما إميل دوركهايم، فقد أرسى الأساس لفهم الجريمة كمظهر اجتماعي يعتدي على قواعد الجماعة بدلا من كونه مجرد انتهاك قانوني. ومع ذلك، أجد نفسي أمام هذه المفاهيم، لا أتبنى هذه النظريات كمسلمات مطلقة، بل أتساءل: إلى أي مدى يمكن لهذه النظريات أن تفسر الفجوة بين الوصم العلمي والعار الاجتماعي؟
الوصم يتداخل بشكل كبير مع العار، الذي يستمد جذوره من الأعراف الاجتماعية. وبين هذين المفهومين، تتولد أسئلة شائكة: ما حدود الوصم؟ ومتى يتحول إلى عار اجتماعي؟ للإجابة، علينا الاعتراف بأن الذات الإنسانية تحمل بداخلها مزيجًا معقدا من الميول والغرائز التي تتحكم في أفعالها. يمكن أن نستشهد هنا بمثال المرأة التي تُوصف بـ"العاهرة"، والتي تبرر سلوكها بتقديم رواية الضحية، متباكية على خسارة شرفها، بينما قد تكون قد استمتعت في لحظة وقوع الفعل. في مثل هذه الحالات، تسقط القواعد الأخلاقية والعلمية على حد سواء، ويترك المجال للأحكام الاجتماعية التي لا تخضع لأي معايير ثابتة.
نفس المبدأ ينطبق على أفعال أخرى مثل السرقة، القتل، أو الكذب. فهذه السلوكيات توضع في خانة الوصم أو العار بناءا على السياق الاجتماعي والثقافي الذي يعاد من خلاله تفسير الفعل.
ختاما، قد يبدو من العبث رفض جميع النظريات التي تحاول تأطير مفهوم الوصم أو العار، كما قد يكون من غير الواقعي تجاهل التأويلات الاجتماعية لهذه المفاهيم. لكن الحقيقة تبقى أن الوصم كظاهرة إنسانية يتمتع بديناميكية خاصة، حيث يمكن أن يستمر أو ينقطع بناءا على الظروف الذاتية والبيئية المحيطة بالفرد. فالانتهازي، إن أتيحت له الفرصة ليصبح قاضيا، لن يتردد في اغتنامها، وبائعة الهوى قد تدّعي التوبة بينما تستمر في ذات الأفعال خفية. وفي كل الحالات، تبقى الذات الإنسانية العامل الأساسي في استمرارية الوصم أو انقطاعه، وهو أمر لا يخضع لقواعد ثابتة بل يرتبط بعمق النفس البشرية وقدرتها على مواجهة قبحها الداخلي.
0 تعليق